الضفة الغربية- مقاومة متصاعدة في وجه الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي

بينما تتجه أغلب الاهتمامات صوب قطاع غزة المكلوم، تشهد الضفة الغربية تصعيدًا خطيرًا يتمثل في هجمات عسكرية إسرائيلية متزايدة، خلفت وراءها، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أكثر من 594 شهيدًا، بينهم 115 طفلًا قضوا بنيران حية، فضلًا عن إصابة 1411 طفلًا آخر، وذلك بحسب إحصائيات الأمم المتحدة. كما سجلت مأساة أخرى، وهي وفاة اثني عشر شخصًا جراء العنف الذي يمارسه المستوطنون الإسرائيليون المتطرفون، مما يزيد الوضع تعقيدًا وإيلامًا.
في هذا الأسبوع، صعّدت إسرائيل من وتيرة حملتها العسكرية في الضفة الغربية، حيث شنت غارات مكثفة وضربات جوية استهدفت مدنًا مثل طولكرم وجنين وطوباس. وتُعد هذه العمليات العسكرية الأوسع نطاقًا في الأراضي المحتلة منذ العام 2002، إبان الانتفاضة الثانية، مما يعكس تصاعدًا ملحوظًا في العنف والتوتر.
غير أن الضفة الغربية، وبروح من الصمود والتصميم، اتخذت قرارًا جريئًا بالدخول في منعطف التحدي العسكري، ورفض الاستسلام للواقع المرير الذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي، الذي يسعى جاهدًا لتحويلها إلى "منطقة رخوة" يسهل اقتحامها والسيطرة عليها دون تكبد أي خسائر. وفي تصريح يعكس هذه النظرة، قال رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، خلال زيارة لجنين يوم السبت، إن القوات الإسرائيلية "لن تسمح للضفة الغربية بأن ترفع رأسها"!.
لقد قررت الضفة الغربية بشجاعة الدخول في ميدان التحدي العسكري، رافضةً الإذعان للاحتلال الإسرائيلي ومخططاته الرامية إلى تحويلها إلى منطقة مستباحة.
اليوم، تحمل القرى والمخيمات والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية السلاح في وجه هذه الغطرسة الإسرائيلية، رافعةً رأسها عاليًا، ومفندةً حسابات الاحتلال بعمليات نوعية لم يشهدها تاريخ المواجهات في الضفة من قبل. ويأتي هذا التحرك كرد فعل على سلسلة طويلة من الانتهاكات الصارخة، وأخطرها تلك التي تستهدف أراضيها في صمت بعيدًا عن أعين وسائل الإعلام، التي لا تنقل هذه المأساة إلى المؤسسات الحقوقية الدولية. إن التعامل الإسرائيلي مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، سواء على المستوى الرسمي أو من خلال التغاضي عن ممارسات المستوطنين، ينظر إليهم على أنهم "ليسوا بشرًا" يستحقون الحياة، ويحول أراضيهم إلى "مكب نفايات" لأكثر من نصف مليون مستوطن متطرف وعدواني، يتمتعون بحصانة تامة من المساءلة على كافة المستويات.
إن هذا التوجه الخطير لا يرتبط فقط بالضغوط المعلنة والخفية الرامية إلى تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية وإعادة هندسة المنطقة لصالح المستوطنين، بل يرتبط أيضًا بنوعية "المستوطنات/المجتمعات الأيديولوجية" التي تؤمن بأنها تمتلك تفويضًا إلهيًا يسمح لها بالتعامل بفوقية واحتقار مع السكان الأصليين، وإنكار حقوقهم الأساسية.
حتى يومنا هذا، تصر إسرائيل على الإشارة إلى الضفة الغربية باسمها التوراتي "يهودا والسامرة"، وتعتبرها القلب التاريخي للشعب اليهودي. وعلى مدى 56 عامًا، أقامت إسرائيل أكثر من 100 مستوطنة متناثرة في مختلف أنحاء الضفة الغربية، بالإضافة إلى عشرات البؤر الاستيطانية الصغيرة غير المرخصة التي تتسامح معها الحكومة، بل وتشجعها، وقد تم إضفاء الشرعية على بعضها في وقت لاحق.
لقد أقيمت المستوطنات الإسرائيلية لأسباب متعددة؛ ففي بعض الحالات، سعى الإسرائيليون إلى استعادة ما يزعمون أنها "الممتلكات المفقودة" في حرب عام 1948، مثل المستوطنات الأساسية في جوش عتصيون بين القدس والخليل. وفي الوقت نفسه، شجعت المؤسسات السياسية والدفاعية الإسرائيلية تطوير المستوطنات في مواقع إستراتيجية مثل وادي الأردن، بهدف "تعزيز أمن إسرائيل وتقوية يدها في المفاوضات"، وذلك استنادًا إلى خطة السلام التي وضعها بجال آلون نائب رئيس الوزراء (1967-1977). بالإضافة إلى ذلك، أقام المستوطنون الأيديولوجيون، الذين يسعون إلى توسيع نطاق السيطرة اليهودية على الأراضي التوراتية، مستوطنات مثل كريات أربع بالقرب من الخليل.
وقد استمرت المستوطنات في التوسع بشكل مطرد في العقود اللاحقة، فبحلول عام 1993، كان يعيش أكثر من 280 ألف شخص في المستوطنات (130 ألفًا إذا تم استبعاد القدس الشرقية). وفي العام نفسه، وافقت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية على تنفيذ حل الدولتين، الذي يقتضي التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا التي تؤثر بشكل مباشر على حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية واستمراريتها، بما في ذلك الوضع النهائي للمستوطنات الإسرائيلية.
وعلى الرغم من هذا الاتفاق، استمر بناء المستوطنات بلا هوادة، وخاصة في الضفة الغربية، وفي عام 2019، وصل عدد المستوطنين إلى ما يقرب من 630 ألفًا (413 ألفًا إذا تم استبعاد القدس الشرقية). ومع ذلك، فإن غالبية هؤلاء المستوطنين الجدد مدفوعون بأسباب أيديولوجية متطرفة، حيث يعتقدون، وفقًا لتفسيراتهم الخاصة للتوراة، أن الله منحهم الحق في الاستيطان في هذه الأراضي. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن المتدينين المتشددين يشكلون ثلث سكان المستوطنات.
ومؤخرًا، أقرت إسرائيل أكبر عملية مصادرة للأراضي في الضفة الغربية المحتلة منذ أكثر من ثلاثة عقود، وتقدمت بخطط لبناء آلاف الوحدات الاستيطانية الجديدة، وذلك وفقًا لمنظمة "السلام الآن"، وهي منظمة مراقبة إسرائيلية معارضة للاستيطان. وتعتبر هذه الخطوة الأخيرة بمثابة محاولة من الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة لتعزيز سيطرة إسرائيل على المنطقة وتقويض فرص إقامة دولة فلسطينية مستقلة.
إن هذا "الحق الإلهي" المزعوم في أراضي الضفة الغربية، والذي يرتكز على الهوس الديني المتنامي في إسرائيل، قد أدى إلى ترسيخ نظرة "احتقار" شديدة التطرف تجاه الفلسطينيين في العقل الإسرائيلي الاستيطاني. ويتم استخدام سلاح "الصرف الصحي" كأداة "ناعمة" لإخلاء الضفة من سكانها الفلسطينيين، وهي ممارسة لا تزال تتخفى خلف تغطية إعلامية باهتة وغير مؤثرة، لا تلفت انتباه العالم إليها.
تشكل مياه الصرف الصحي والنفايات الصلبة الناتجة عن المستوطنات اليهودية والمناطق الصناعية تهديدًا مزدوجًا، فهي تعرض الصحة العامة للخطر وتجعل الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام.
ووفقًا لبيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن المستوطنات اليهودية غير القانونية في الضفة الغربية، التي تفتقر إلى مرافق المعالجة المناسبة، تنتج حوالي 40 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي سنويًا.
وكشفت الدراسات التي أجرتها الهيئة عام 2018 أن نحو 90% من هذه النفايات، أي ما يقارب 35 مليون متر مكعب، يتم تصريفها دون معالجة في الأراضي الفلسطينية.
وفي الأثناء، أظهرت الأبحاث التي أجرتها منظمة Cesvi الإنسانية الإيطالية في عام 2019 أن المستوطنين ينتجون نفايات صلبة أكثر للفرد مقارنة بالفلسطينيين. ففي حين أنتج الفلسطينيون في الضفة الغربية عام 2019 ما متوسطه 0.9 كيلوغرام من النفايات الصلبة للشخص الواحد يوميًا، أنتج المستوطنون الإسرائيليون 1.9 كيلوغرام. وبناءً على هذه البيانات، تشير التقديرات إلى أن المستوطنات غير القانونية تولد حوالي 1200 طن من النفايات الصلبة يوميًا.
وفي تقرير حديث صادر عن المجلس النرويجي للاجئين، تم تحليل الأثر البيئي لمياه الصرف الصحي غير المعالجة من مستوطنات الضفة الغربية باستخدام طرق مختلفة، بما في ذلك نظم المعلومات الجغرافية، والتحاليل الكيميائية والبيولوجية، والبحوث الاجتماعية والاقتصادية التي أجراها مركز أبحاث الأراضيLRC من 1 مايو/أيار إلى 31 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي.
واكتشفت الدراسة البكتيريا القولونية، التي توجد عادة في مياه الصرف الصحي والنفايات الحيوانية، في عينات المياه من المناطق الزراعية في وادي شخيت والمنطقة الصناعية في عمانوئيل التي تضم المصانع ومحطات إعادة التدوير، كما وُجدت مستويات عالية من النترات، مما قد يسبب تلوث المياه الجوفية.
وكانت بكتيريا الإشريكية القولونية، المرتبطة بالإسهال والأمراض الخطيرة الأخرى، موجودة في عينات التربة والمياه، مما يشير إلى تلوثها بمياه الصرف الصحي وفضلات الحيوانات.
بالإضافة إلى ذلك، تم العثور على آثار للمعادن الثقيلة مثل النحاس والمنغنيز والكروم والنيكل، إلى جانب ارتفاع مستويات الصوديوم التي تعطل بنية التربة وامتصاص العناصر الغذائية، مما يعيق نمو المحاصيل. ولقد تجاوزت مستويات الملوثات العضوية معايير الاتحاد الأوروبي، حيث وصل الطلب على الأكسجين الكيميائي إلى 312 مليغرامًا لكل لتر في وادي شخيت و557 مليغرامًا لكل لتر في عمانوئيل، كما بلغت نسبة المواد الصلبة العالقة الكلية في وادي شخيت 960 مليغرامًا لكل لتر، و8809 مليغرامات لكل لتر في عمانوئيل، متجاوزة القيمة الطبيعية البالغة 35 إلى 60 مليغراما لكل لتر.
وتؤدي المياه العادمة التي يتم تصريفها من منطقة وادي شخيت وعمانوئيل الصناعية إلى إتلاف الغطاء النباتي وجعل الأراضي الزراعية غير صالحة للاستخدام، ما يهدد سبل عيش السكان المحليين ويزيد من معاناتهم.
وتواترت تحذيرات "خجولة" من خبراء من أن التلوث، الذي يهدد الصحة العامة والبيئة، يؤدي إلى تفاقم الضغوط على الفلسطينيين الذين يتعاملون بالفعل مع الآثار المكثفة لتغير المناخ.
ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، من المتوقع أن يرتفع متوسط درجة حرارة الهواء في الضفة الغربية بمقدار 4.4 درجات مئوية بحلول نهاية القرن الحادي والعشرين، مع توقع أن يكون حوالي 60٪ من الأيام حارًا، وقد يؤدي الانخفاض المحتمل بنسبة 30% في إجمالي هطول الأمطار السنوي في المنطقة إلى أيام أكثر حرارة وجفافًا، ما ينذر بمستقبل قاتم.
إزاء هذه التحديات المتفاقمة، لم يكن أمام الضفة الغربية سوى خيارين: إما الانفجار وإما الاختفاء. هذا الخيار لم يظهر بالتزامن مع العدوان الوحشي على غزة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، بل كان حاضرًا طوال الوقت. ولم يترك الإسرائيليون للفلسطينيين خيارًا ثالثًا، وبدأت بشائره تتصاعد بوتيرة تنذر بالخطر، مما قد يؤدي إلى اختلاط جميع الأوراق وإضافة المزيد من العوامل التي تزيد من احتمالية اندلاع فوضى شاملة، لا تتمناها جميع الأطراف التي باتت على وشك التورط في حريق هائل في منطقة الشرق الأوسط.